الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أَيْ: قَدْ كُنْتَ مَوْضِعَ رَجَائِنَا لِمُهِمَّاتِ أُمُورِنَا، لِمَا لَكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي بَيْتِكَ وَفِي صِفَاتِكَ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، قَبْلَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ دِينِنَا بِمَا تَزْعُمُ مِنْ بُطْلَانِهِ فَانْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا وَاسْتَمَرَّ فِينَا لَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ أَحَدٌ؟ فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ، وَلَوْ قَالُوا: مَا عَبَدَ آبَاؤُنَا لَمَا أَفَادَ هَذَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةٌ مُصَوِّرَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي صُورَةِ الْحَاضِرَةِ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أَيْ: وَإِنَّا لَوَاقِعُونَ فِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ الشُّفَعَاءِ لَنَا عِنْدَهُ الْمُقَرِّبِينَ لَنَا إِلَيْهِ، وَلَا بِتَعْظِيمِ مَا وَضَعَهُ آبَاؤُنَا لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ، لَا نَدْرِي مُرَادَكَ وَغَرَضَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلرَّيْبِ وَسُوءِ الظَّنِّ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّيْبُ: الظَّنُّ وَالشَّكُّ، وَرَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي إِذَا جَعَلَكَ شَاكًّا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَابَنِي مِنْ فُلَانٍ أَمْرٌ يَرِيبُنِي رَيْبًا: إِذَا اسْتَيْقَنْتُ مِنْهُ الرِّيبَةَ، فَإِذَا أَسَأْتَ بِهِ الظَّنَّ وَلَمْ تَسْتَيْقِنْ مِنْهُ الرِّيبَةَ، قُلْتَ: أَرَابَنِي مِنْهُ أَمَرٌ هُوَ فِيهِ إِرَابَةٌ، وَأَرَابَنِي فُلَانٌ إِرَابَةً فَهُوَ مُرِيبٌ: إِذَا بَلَغَكَ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ تَوَهَّمْتَهُ اهـ.{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ 28 إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِي مَعَكُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ قَطْعِيَّةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَوَهَبَنِي رَحْمَةً خَاصَّةً مِنْهُ جَعَلَنِي بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَيْكُمْ {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} بِكِتْمَانِ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا يَسُوءُكُمْ مِنْ بُطْلَانِ عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمْ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ وَيَدْفَعُ عَنِّي عِقَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَنْ لَا أُبَالِي بِفَقْدِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَلَا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ شَكٍّ وَارْتِيَابٍ فِي أَمْرِي {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أَيْ مَا تَزِيدُونَنِي بِحِرْصِي عَلَى رَجَائِكُمْ فِيَّ وَاتِّقَاءِ سُوءِ ظَنِّكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ، غَيْرَ إِيقَاعٍ فِي الْخُسْرَانِ بِإِيثَارِ مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتِرَاءِ رِضَاكُمْ بِسُخْطِ اللهِ- تَعَالَى-، أَوْ غَيْرِ إِيقَاعٍ فِي الْهَلَاكِ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَخَسَّرَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: أَهْلَكَهُ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَخَسَّرْتُ فُلَانًا بِالتَّثْقِيلِ أَبْعَدْتُهُ، وَخَسَّرْتُهُ: نَسَبْتُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ، مِثْلَ كَذَّبْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، مِثْلُهُ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْجُمْلَةِ: فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ إِلَّا خَسَارًا. انْتَهَى... وَلَعَلَّ مُرَادَهُمَا: مَا تَزِيدُونَنِي بِقَوْلِكُمْ إِلَّا عِلْمًا بِخَسَارِكُمْ بِاسْتِبْدَالِ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ.{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيِّنَةِ اللهِ لِصَالِحٍ عليه السلام وَهِيَ آيَتُهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَإِنْذَارِهِمُ الْهَلَاكَ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا هُمْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ.{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} أَيِ: النَّاقَةُ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِهِ بِجَعْلِهَا مُمْتَازَةً دُونَ الْإِبِلِ بِمَا تَرَوْنَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَكْلِهَا وَشُرْبِهَا، أُشِيرَ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا لَكُمْ آيَةً مِنْهُ بَيِّنَةً دَالَّةً عَلَى هَلَاكِكُمْ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيهَا {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ} مِمَّا فِيهَا مِنَ الْمَرَاعِي لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ بِمَنْعٍ {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أَيْ: لَا يَمَسَّهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ بِأَذًى فَيَأْخُذَكُمْ كُلَّكُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَسِّكُمْ إِيَّاهَا بِعُقْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْإِنْذَارُ بِنَصِّهِ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} 7: 73 وَكُلٌّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ حَقٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ هُنَالِكَ عَلَى هَذِهِ النَّاقَةِ وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللهِ- تَعَالَى-، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ.{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} يَقُولُونَ: عَقَرَ النَّاقَةَ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَ قَوَائِمَهَا لَهُ أَوْ نَحْرَهَا، أَيْ فَقَتَلُوا النَّاقَةَ عَقِبَ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ لَهُ وَلَا مُبَالِينَ بِالْوَعِيدِ، فَضَرَبَ لَهُمْ صَالِحٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَوْعِدًا يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فِي وَطَنِهِمْ كَمَا كَانُوا فِي مَعَايِشِهِمْ {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أَيْ: وَعْدٌ مِنَ اللهِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، وَكَذَّبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: كَذَّبَ فُلَانًا حَدِيثًا وَكَذَّبَهُ الْحَدِيثَ أَيْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْوَعْدُ خَبَرٌ مَوْقُوتٌ، كَأَنَّ الْوَاعِدَ قَالَ لِلْمَوْعُودِ: إِنَّنِي أَفِي بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ وَفَى فَقَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبٌ مَصْدَرًا، وَلَهُ نَظَائِرُ كَالْمَفْتُونِ وَالْمَجْلُودِ وَمِنْهُ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} 68: 6.{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَاُ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بِإِنْجَازِ وَعْدِنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ ذُلِّهِ وَنَكَالِهِ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ مِنَ الْوُجُودِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَلَعْنَةِ الْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ- تَعَالَى-، وَأَصْلُ التَّعْبِيرِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، فَفَصَلَ بَيْنَ (مِنْ) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، و(مِنْ) الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِدُونِ إِعَادَةِ فِعْلِ التَّنْجِيَةِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ هُنَاكَ، وَقُدِّرَ هُنَا اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِهِ بِقُرْبِ مِثْلِهِ.فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (58) فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَاءِ- فَلَمَّا- وَتِلْكَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَاءُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ بِالْفَاءَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَوَاقِعِهَا مِنْ أَمْرِ الْإِنْذَارِ فَالْوَعِيدِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْمُخَالِفَةِ فَتَحْدِيدِ مَوْعِدِ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِخْبَارِ بِإِنْجَازِهِ وَوُقُوعِهِ- فَمَا كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الشَّمْسِ: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} 91: 13 و14 وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا.فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ هَذِهِ الدِّقَّةَ الْغَرِيبَةَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ وَالْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ فِي الْعَطْفِ، فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ أَلْبَتَّةَ، وَلِيَعْذُرَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا إِذَا جَعَلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إِعْجَازُهُ الْعِلْمِيُّ مِنْ وُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ أَعْلَى.{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ بِقَوْمِكَ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، الْعَزِيزُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ.قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَوْمِئِذٍ} بِجَرِّ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 70: 11.{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الْأَخْذُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَفِي الْإِهْلَاكِ، وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَيْحَةُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِقَوْمِ صَالِحٍ فَأَحْدَثَتْ رَجْفَةً فِي الْقُلُوبِ وَزَلْزَلَةً فِي الْأَرْضِ، وَصُعِقَ بِهَا جَمِيعُ الْقَوْمِ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَصْعُوقِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، شُبِّهُوا بِالطَّيْرِ فِي لُصُوقِهَا بِالْأَرْضِ. يُقَالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ وَالْأَرْنَبُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) جُثُومًا، وَهُوَ كَالْبُرُوكِ مِنَ الْبَعِيرِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} 7: 87 إِلَخْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا آيَةُ (44) سُورَةِ الذَّارِيَاتِ حَيْثُ قَالَ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ آيَةُ 17 {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ} وَبَيَّنَّا مَعْنَى الصَّاعِقَةِ الَّذِي عُرِفَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعَيِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ فَيُرَاجَعُ وَمِنْهُ يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّيْحَةَ صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} هُوَ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ (كَرَضِيَ) إِذَا أَقَامَ فِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَعَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا ألْبَتَّةَ {أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قَوْمِ هُودٍ، وَفِي ثَمُودَ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مَشْهُورَتَانِ: تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِمَعْنَى الْحَيِّ أَوِ الْقَوْمِ، وَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا.إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ- فِي 24 سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي وَطَنِهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بَيَانِ إِمَامَتِهِ وَكَوْنِ مِلَّتِهِ أَسَاسَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى خَاتَمِهِمْ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَتِهِ بِوَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيلَ فَإِسْحَاقَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَمَا وَعَدَهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِإِسْمَاعِيلَ وَقَوْمِهِ الْعَرَبِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِسْكَانِهِ هُنَالِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِإِسْحَاقَ وَإِخْبَارِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. اهـ.
|